فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات}.
والسيئات نعت لمصدر محذوف أي: المكرات السيئات قاله الزمخشري، أو مفعول يمكروا على تضمين مكروا معنى فعلوا وعملوا، والسيئات على هذا معاصي الكفر وغيره قاله قتادة، أو مفعول بأمن ويعني به العقوبات التي تسوءهم ذكرهما ابن عطية.
وعلى هذا الأخير يكون أن يخسف بدلًا من السيئات.
وعلى القولين، قبله مفعول بامن، والذين مكروا في قول الأكثرين هم أهل مكة مكروا بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد: هو نمرود، والخسف بلع الأرض المخسوف به وقعودها به إلى أسفل.
وذكر النقاش أنه وقع الخسف في هذه الأمة بهم الأرض كما فعل بقارون، وذكر لنا أنّ أخلاطًا من بلاد الروم خسف بها، وحين أحسن أهلها بذلك فرّ أكثرهم، وأن بعض التجار ممن كان يرد إليها رأى ذلك من بعيد فرجع بتجارته.
من حيث لا يشعرون: من الجهة التي لا شعور لهم بمجيء العذاب منها، كما فعل بقوم لوط في تقلبهم في أسفارهم قاله قتادة، أو في منامهم روي هذا وما قبله عن ابن عباس.
وقال الضحاك، وابن جريج، ومقاتل: في ليلهم ونهارهم أي: حالة ذهابهم ومجيئهم فيهما.
وقيل: في تقلبهم في مكرهم وحيلهم، فيأخذهم قبل تمام ذلك.
وقال الزجاج: جميع ما يتقلبون فيه، فما هم بسابقين الله ولا فائتيه.
والأخذ هنا الإهلاك كقوله: {فكلًا أخذنا بذنبه} وعلى تخوف على تنقص قاله: ابن عباس، ومجاهد، والضحاك.
وقال ابن قتيبة: يقال خوفته وتخوفته إذا تنقصته وأخذت من ماله وجسمه.
وقال الهيثم بن عدي: هو النقص بلغة أزدشنوءة.
وفي حديث لعمر أنه سأل عن التخوف، فأجابه شيخ: بأنه التنقص في لغة هذيل.
وأنشده قول أبي كثير الهذلي:
تخوف الرجل منها تامكًا قردًا ** كما تخوف عود النبعة السقر

وهذا التخوف بمعنى التنقص، قيل: من أعماله، وقيل: يأخذ واحدًا بعد واحد، ورويا عن ابن عباس.
وقال الزجاج: ينقص ثمارهم وأموالهم حتى يهلكهم.
وقيل: على تخوف، على خوف أن يعاقبهم أو يتجاوز عنهم قاله قتادة.
وقال الزمخشري: على تخوف متخوفين، وهو أن يهلك قومًا قبلهم فيتخوفوا، فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون متوقعون، وهو خلاف قوله: {من حيث لا يشعرون} انتهى.
وقاله الضحاك، يأخذ قرية فتخاف القرية الأخرى.
وقال ابن بحر: على تخوف ضد البغتة أي: على حدوث حالات يخاف منها كالرياح والزلازل والصواعق، ولهذا ختم بقوله تعالى: {إن ربكم لرؤوف رحيم} لأنّ في ذلك مهلة وامتداد وقت، فيمكن فيه التلافي.
وقال الليث بن سعد: على تخوف على عجل.
وقيل: على تقريع بما قدّموه، وهذا مروي عن ابن عباس.
ولما كان تعالى قادرًا على هذه الأمور ولم يعاجلهم بها ناسب وصفه بالرأفة والرحمة.
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)}.
دخر دخورًا تصاغر، وفعل ما يؤمر شاء أو أبى.
فقال ابن عطية: تواضع.
قال ذو الرمة:
فلم يبق إلا داخر في مجلس ** ومنجحر في غير أرضك في جحر

{أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيئوا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدًا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} لما ذكر تعالى قدرته على تعذيب الماكرين وإهلاكهم بأنواع من الأخذ، ذكر تعالى طواعية ما خلق من غيرهم وخضوعه ضد حال الماكرين، لينبههم على أنه ينبغي بل يجب عليهم أن يكونوا طائعين منقادين لأمره.
وقرأ السلمي، والأعرج، والأخوان: {أو لم تروا} بتاء الخطاب إما على العموم للخلق استؤنف به الأخبار، وإما على معنى: قل لهم إذا كان خطابًا خاصًا.
وقرأ باقي السبعة بالياء على الغيبة.
واحتمل أيضًا أن يعود الضمير على {الذين مكروا} واحتمل أن يكون إخبارًا عن المكلفين، والأول أظهر لتقدم ذكرهم.
وقرأ أبو عمرو، وعيسى، ويعقوب: {تتفيئوا} بالتاء على لتأنيث، وباقي السبعة بالياء.
وقرأ الجمهور: {ظلاله} جمع ظل.
وقرأ عيسى: {ظلله} جمع ظلة، كحلة وحلل.
والرؤية هنا رؤية القلب التي يقع بها الاعتبار، ولكنها بواسطة رؤية العين.
قيل: والاستفهام هنا معناه التوبيخ.
قيل: ويجوز أن يكون معناه التعجب والتقدير: تعجبوا من اتخاذهم مع الله شريكًا وقد رأوا هذه المصنوعات التي أظهرت عجائب قدرته وغرائب صنعه، مع علمهم بأنّ آلهتهم التي اتخذوها شركاء لا يقدر على شيء البتة.
والجملة من قوله: {تتفيئوا} في موضع الصفة قاله الحوفي، وهو ظاهر قول ابن عطية والزمخشري.
قال ابن عطية: من شيء لفظ عام في كل ما اقتضته الصفة في قوله: {تتفيؤ ظلاله} لأنّ ذلك صفة لما عرض للعبرة في جميع الأشخاص التي لها ظل.
وقال الزمخشري: وما موصولة بخلق الله وهو مبهم بيانه من شيء تتفيؤ ظلاله، وقال غير هؤلاء: المعنى من شيء له ظل من جبل وشجر وبناء وجسم قائم، وقوله: {تتفيؤ ظلاله} إخبار عن قوله من شيء وصف له، وهذا الإخبار يدل على ذلك الوصف المحذوف الذي هو له ظل.
وتتفيؤ تتفعل من الفيء، وهو الرجوع يقال: فاء الظل يفيء فيأرجع، وعاد بعدما نسخه ضياء الشمس.
وفاء إذا عدي فبالهمزة كقوله: {ما أفاء الله على رسوله} أو بالتضعيف نحو: فيأ الله الظل فتفيأ، وتفيأ من باب المطاوعة، وهو لازم وقد استعمله أبو تمام متعديًا قال:
طلبت ربيع ربيعة الممهى لها ** وتفيأت ظلالها ممدودا

ويحتاج ذلك إلى نقله من كلام العرب متعديًا.
قال الأزهري: تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار، فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي وما انصرفت عنه الشمس، والظل ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله.
وقال الشاعر:
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ** ولا الفيء من برد العشيّ تذوق

وقال امرؤ القيس:
تيممت العين التي عند ضارج ** يفيء عليها الظل عرمضها طام

وعن رؤبة ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل ما لم تكن عليه فهو ظل، وذلك أنّ الشمس من طلوعها إلى وقت الزوال تنسخ الظل، فإذا زالت رجع، ولا يزال ينمو إلى أن تغيب.
والمشهور أنّ الفيء لا يكون إلا بعد الزوال، والاعتبار في هذه الآية من أول النهار إلى آخره.
فمعنى تتفيؤ تتنقل وتميل، وأضاف الظلال وهي جمع إلى ضمير مفرد، لأنه ضمير ما، وهو جمع من حيث المعنى لقوله: {لتستووا على ظهوره} وقال صاحب اللوامح: في قراءة عيسى ظلله، وظله الغيم وهو جسم، وبالكسر الفيء وهو عرض في العامة: فرأى عيسى أن التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى، وأما في العامة فعلى الاستعارة انتهى.
قالوا في قوله: {عن اليمين والشمائل} بحثان:
أحدهما: ما المراد بذلك.
والثاني: ما الحكمة في إفراد اليمين وجمع الشمائل؟ أما الأول فقالوا: يمين الفلك وهو المشرق.
وشماله هو المغرب.
وخص هذان الاسمان بهذين الجانبين لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه، ومنه تظهر الحركة الفلكية اليومية آخذة من المشرق إلى المغرب، لا جرم كان المشرق يمين الفلك والمغرب شماله، فعلى هذا تقول الشمس عند طلوعها إلى وقت انتهائها إلى وسط الفلك يقع الظلال إلى الجانب الغربي، فإن انحدرت من وسط الفلك عن الجانب الغربي وقعت الظلال في الجانب الشرقي، فهذا المراد من تفيؤ الظلال من اليمين إلى الشمال.
وقيل: البلدة التي عرضها أقل من مقدار الميل تكون الشمس في الصيف عن يمين البلدة فتقع الظلال على يمينهم.
وقال الزمخشري: المعنى أو لم يروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ضلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها عن جانبي كل واحد منها وشقيه، استعارة من يمين الإنسان وشماله بجانبي الشيء أي: ترجع الظلال من جانب إلى جانب انتهى.
وقال ابن عطية: والمقصود العبرة في هذه الآية، هو كل جرم له ظل كالجبال والشجر وغير ذلك، والذي يترتب فيه أيمان وشمائل إنما هو البشر فقط، لكن ذكر الأيمان والشمائل هنا على حسب الاستعارة لغير اللبس تقدره: ذا يمين وشمال، وتقدره: بمستقبل أي جهة شئت، ثم تنظر ظله فتراه يميل إما إلى جهة اليمين وإما إلى جهة الشمال، وذلك في كل أقطار الدنيا، فهذا يعم ألفاظ الآية.
وفيه تجوز واتساع.
ومن ذهب إلى أنّ اليمين من غدوة الزوال، ويكون من الزوال إلى المغيب عن الشمال، وهو قول قتادة وابن جريج، فإنما يترتب فيما قدره مستقبل الجنوب انتهى.
وأما الثاني فقال الزمخشري: واليمين بمعنى الأيمان، فجعله وهو مفرد بمعنى الجمع، فطابق الشمائل من حيث المعنى كما قال: {ويولون الدبر} يريد الإدبار.
وقال الفراء: كأنه إذا وجد ذهب إلى واحد من ذوات الظلال، وإذا جمع ذهب إلى كلها لأنّ قوله ما خلق الله من شيء، لفظه واحد ومعناه الجمع، فعبر عن أحدهما بلفظ الواحد لقوله: {وجعل الظلمات والنور} وقوله: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} وقيل: إذا فسرنا اليمين بالمشرق، كانت النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها، فكانت اليمين واحدة.
وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الظلال بعد وقوعها على الأرض، وهي كثيرة، فلذلك عبر عنها بصيغة الجمع.
وقال الكرماني يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال والقدام والخلف، لأنّ الظل يفيء من الجهات كلها فبدىء باليمين لأن ابتداء التفيؤ منها، أو تيمنًا بذكرها، ثم جمع الباقي على لفظ الشمال لما بين اليمين والشمال من التضاد، وتنزل القدام والخلف منزلة الشمال لما بينهما وبين اليمين من الخلاف.
وقيل: وحد اليمين وجمع الشمائل، لأن الابتداء عن اليمين، ثم ينقبض شيئًا فشيئًا حالًا بعد حال، فهو بمعنى الجمع، فصدق على كل حال لفظة الشمال، فتعدد بتعدد الحالات.